فصل: الآية رقم ‏(‏16‏:‏17‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏15‏)‏

‏{‏قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد‏}‏

منتهى الاستفهام عند قوله‏{‏من ذلكم‏{‏، ‏{‏للذين اتقوا‏{‏ خبر مقدم، و‏{‏جنات‏{‏ رفع بالابتداء‏.‏ وقيل‏:‏ منتهاه ‏{‏عند ربهم‏{‏، و‏{‏جنات‏{‏ على هذا رفع بابتداء مضمر تقديره ذلك جنات‏.‏ ويجوز على هذا التأويل ‏{‏جنات‏{‏ بالخفض بدلا من ‏{‏خير‏{‏ ولا يجوز ذلك على الأول‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الآية والتي قبلها نظير قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك‏)‏ خرجه مسلم وغيره‏.‏ فقوله ‏(‏فاظفر بذات الدين‏)‏ مثال لهذه الآية‏.‏ وما قبل مثال للأولى‏.‏ فذكر تعالى هذه تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها‏.‏ وقد تقدم في البقرة معاني ألفاظ هذه الآية‏.‏ والرضوان مصدر من الرضا، وهو أنه إذا دخل أهل الجنة يقول الله تعالى لهم ‏(‏تريدون شيئا أزيدكم‏)‏‏؟‏ فيقولون‏:‏ يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا‏؟‏ فيقول‏:‏ ‏(‏رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدأ‏)‏ خرجه مسلم‏.‏ وفي قوله تعالى‏{‏والله بصير بالعباد‏{‏ وعد ووعيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏16‏:‏17‏)‏

‏{‏الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار‏}‏

‏{‏الذين‏{‏ بدل من قوله ‏{‏للذين اتقوا‏{‏ وإن شئت كان رفعا أي هم الذين، أو نصبا على المدح‏.‏ ‏{‏ربنا‏{‏ أي يا ربنا‏.‏ ‏{‏إننا آمنا‏{‏ أي صدقنا‏.‏ ‏{‏فاغفر لنا ذنوبنا‏{‏ دعاء بالمغفرة‏.‏ ‏{‏وقنا عذاب النار‏{‏ تقدم في البقرة‏.‏ ‏{‏الصابرين‏{‏ يعني عن المعاصي والشهوات، وقيل‏:‏ على الطاعات‏.‏ ‏{‏والصادقين‏{‏ أي في الأفعال والأقوال ‏{‏والقانتين‏{‏ الطائعين‏.‏ ‏{‏والمنفقين‏{‏ يعني في سبيل الله‏.‏ وقد تقدم في البقرة هذه المعاني على الكمال‏.‏ ففسر تعالى في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات‏.‏

واختلف في معنى قوله تعالى‏{‏والمستغفرين بالأسحار‏{‏ فقال أنس بن مالك‏:‏ هم السائلون المغفرة‏.‏ قتادة‏:‏ المصلون‏.‏

قلت‏:‏ ولا تناقض، فإنهم يصلون ويستغفرون‏.‏ وخص السحر بالذكر لأنه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام لبنيه‏{‏سوف أستغفر لكم ربي‏}‏يوسف‏:‏ 98‏]‏‏:‏ ‏(‏أنه أخر ذلك إلى السحر‏)‏ خرجه الترمذي وسيأتي‏.‏ وسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل ‏(‏أي الليل أسمع‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا أدري غير أن العرش يهتز عند السحر‏)‏‏.‏ يقال سحر وسحر، بفتح الحاء وسكونها، وقال الزجاج‏:‏ السحر من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني، وقال ابن زيد‏:‏ السحر هو سدس الليل الآخر‏.‏

قلت‏:‏ أصح من هذا ما‏"‏روى الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر‏)‏ في رواية ‏{‏حتى ينفجر الصبح‏{‏ لفظ مسلم‏.‏ وقد اختلف في تأويله؛ وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى‏)‏‏.‏ صححه أبو محمد عبدالحق، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا فيقول‏.‏ وقد‏"‏روى ‏{‏ينزل‏{‏ بضم الياء، وهو يبين ما ذكرنا، وبالله توفيقنا‏.‏ وقد أتينا على ذكره في ‏{‏الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى‏{‏‏.‏

مسألة‏:‏ الاستغفار مندوب إليه، وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين في هذه الآية وغيرها فقال‏{‏وبالأسحار هم يستغفرون‏}‏الذاريات‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال أنس بن مالك‏:‏ أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ بلغني أنه إذا كان أول الليل نادى مناد ليقِم القانتون فيقومون كذلك يصلون إلى السحر، فإذا كان عند السحر نادى مناد‏:‏ أين المستغفرون فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون فيصلون فيلحقون بهم‏.‏ فإذا طلع الفجر نادى مناد‏:‏ ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم‏.‏ وروي عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله يقول إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المتهجدين والمستغفرين بالأسحار صرفت عنهم العذاب بهم‏)‏‏.‏ قال مكحول‏:‏ إذا كان في أمة خمسة عشر رجلا يستغفرون الله كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الأمة بعذاب العامة‏.‏ وذكره أبو نعيم في كتاب الحلية له‏.‏ وقال نافع‏:‏ كان ابن عمر يحيى الليل ثم يقول‏:‏ يا نافع أسحرنا‏؟‏ فأقول لا‏.‏ فيعاود الصلاة ثم يسأل، فإذا قلت نعم قعد يستغفر‏.‏ وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال‏:‏ سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول‏:‏ يا رب، أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي‏.‏ فنظرت فإذا هو ابن مسعود‏.‏

قلت‏:‏ فهذا كله يدل على أنه استغفار باللسان مع حضور القلب‏.‏ لا ما قال ابن زيد أن المراد بالمستغفرين الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال لقمان لابنه‏:‏ ‏(‏يا بني لا يكن الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم‏)‏‏.‏ والمختار من لفظ الاستغفار ما رواه البخاري عن شداد بن أوس، وليس له في الجامع غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت - قال - ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليله قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة‏)‏‏.‏ وروى أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث ابن لهيعة عن أبي صخر عن أبي معاوية عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال‏:‏ ‏(‏ألا أعلمك كلمات تقولهن لو كانت ذنوبك كمدب النمل - أو كمدب الذر - لغفرها الله لك على أنه مغفور لك‏:‏ اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏18‏)‏

‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما نزلت هذه الآية خررن سجدا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام؛ فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه‏:‏ ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان‏.‏ فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له‏:‏ أنت محمد‏؟‏ قال ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قالا‏:‏ وأنت أحمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قالا‏:‏ نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك‏.‏ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سلاني‏)‏‏.‏ فقالا‏:‏ أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله‏.‏ فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط‏{‏ فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن المراد بأولي العلم الأنبياء عليهم السلام‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ المهاجرون والأنصار‏.‏ مقاتل‏:‏ مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ السدي والكلبي‏:‏ المؤمنون كلهم؛ وهو الأظهر لأنه عام‏.‏

في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء‏.‏ وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم‏{‏وقل رب زدني علما‏}‏طه‏:‏ 114‏]‏‏.‏ فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن العلماء ورثة الأنبياء‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏العلماء أمناء الله على خلقه‏)‏‏.‏ وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير‏.‏ وخرج أبو محمد عبدالغني الحافظ من حديث بركة بن نشيط - وهو عنكل بن حكارك وتفسيره بركة بن نشيط - وكان حافظا، حدثنا عمر بن المؤمل حدثنا محمد بن أبي الخصيب حدثنا عنكل حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة‏)‏ وفي هذا الباب حديث عن أبي الدرداء خرجه أبو داود‏.‏

روى غالب القطان قال‏:‏ أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أختلف إليه‏.‏ فلما كان ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام فتهجد من الليل فقرأ بهذه الآية‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏.‏ إن الدين عند الله الإسلام‏}‏آل عمران‏:‏ 18 - 19‏]‏، قال الأعمش‏:‏ وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، وإن الدين عند الله الإسلام - قالها مرارا - فغدوت إليه وودعته ثم قلت‏:‏ إني سمعتك تقرأ هذه الآية فما بلغك فيها‏؟‏ أنا عندك منذ سنة لم تحدثني به‏.‏ قال‏:‏ والله لا حدثتك به سنة‏.‏ قال‏:‏ فأقمت وكتبت على بابه ذلك اليوم، فلما مضت السنة قلت‏:‏ يا أبا محمد قد مضت السنة‏.‏ قال‏:‏ حدثني أبو وائل، عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى أدخلوا عبدي الجنة‏)‏‏.‏ قال أبو الفرج الجوزي‏:‏ غالب القطان هو غالب بن خطاف القطان، يروي عن الأعمش حديث ‏(‏شهد الله‏)‏ وهو حديث معضل‏.‏ قال ابن عدي الضعف على حديثه بين‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ غالب بن خطاف القطان ثقة ثقة‏.‏ وقال ابن معين‏:‏ ثقة‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ صدوق صالح‏.‏

قلت‏:‏ يكفيك من عدالته وثقته أن خرج له البخاري ومسلم في كتابيهما، وحسبك‏.‏ وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من قرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم عند منامه خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ ويقال من أقر بهذه الشهادة عن عقد من قلبه فقد قام بالعدل‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء العرب صنم أو صنمان‏.‏ فلما نزلت هذه الآية أصبحت الأصنام قد خرت ساجدة لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏شهد الله‏{‏ أي بين وأعلم؛ كما يقال‏:‏ شهد فلان عند القاضي إذا بين وأعلم لمن الحق، أو على من هو‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه؛ فقد دلنا الله تعالى على وحدانيته بما خلق وبين‏.‏ وقال أبو عبيدة‏{‏شهد الله‏{‏ بمعنى قضى الله، أي أعلم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهذا مردود من جهات‏.‏ وقرأ الكسائي بفتح ‏{‏أن‏{‏ في قوله ‏{‏أنه لا إله إلا هو‏{‏ وقوله ‏{‏أن الدين‏{‏‏.‏ قال المبرد‏:‏ التقدير‏:‏ أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو، ثم حذفت الباء كما قال‏:‏ أمرتك الخير‏.‏ أي بالخير‏.‏ قال الكسائي‏:‏ أنصبهما جميعا، بمعنى شهد الله أنه كذا، وأن الذين عند الله‏.‏ قال ابن كيسان‏{‏أن‏{‏ الثانية بدل من الأولى؛ لأن الإسلام تفسير المعنى الذي هو التوحيد‏.‏ وقرأ ابن عباس فيما حكى الكسائي ‏{‏شهد الله إنه‏{‏ ‏{‏بالكسر‏{‏ ‏{‏أن الدين‏{‏ بالفتح‏.‏ والتقدير‏:‏ شهد الله أن الدين الإسلام، ثم ابتداء فقال‏:‏ إنه لا إله إلا هو‏.‏ وقرأ أبو المهلب وكان قارئا - شهداء الله بالنصب على الحال، وعنه ‏{‏شهداء الله‏{‏‏.‏ وروى شعبة عن عاصم عن زرٍّ عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ ‏{‏أن الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية‏{‏‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ ولا يخفى على ذي تمييز أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير، أدخله بعض من نقل الحديث في القرآن‏.‏ و‏{‏قائماً‏{‏ نصب على الحال المؤكدة من اسمه تعالى في قوله ‏{‏شهد الله‏{‏ أو من قوله ‏{‏إلا هو‏{‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو نصب على القطع، كان أصله القائم، فلما قطعت الألف واللام نصب كقوله‏{‏وله الدين واصباً‏}‏النحل‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏القائم بالقسط‏{‏ على النعت، والقسط العدل‏.‏ ‏{‏لا إاله إلا هو العزيز الحكيم‏{‏ كرر لأن الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت محل الحكم‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏19‏)‏

‏{‏إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏{‏ الدين في هذه الآية الطاعة والملة، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات؛ قاله أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين‏.‏ والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التغاير؛ لحديث جبريل‏.‏ وقد يكون بمعنى المرادفة‏.‏ فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر؛ كما في حديث وفد عبدالقيس وأنه أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما الإيمان‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم‏)‏ الحديث‏.‏ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله‏)‏ أخرجه الترمذي‏.‏ وزاد مسلم ‏(‏والحياء شعبة من الإيمان‏)‏‏.‏ ويكون أيضا بمعنى التداخل وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال؛ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان‏)‏‏.‏ أخرجه ابن ماجة، وقد تقدم والحقيقة هو الأول وضعا وشرعا وما عداه من باب التوسع والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏{‏ الآية‏.‏ أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا‏.‏ قاله ابن عمر وغيره‏.‏ وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى‏:‏ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم؛ قاله الأخفش‏.‏ قال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المراد بهذه الآية النصارى، وهي توبيخ لنصارى نجران‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ المراد بها اليهود‏.‏ ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى؛ أي ‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏{‏ يعني في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏إلا من بعد ما جاءهم العلم‏{‏ يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم‏.‏ وقيل‏:‏ أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد، وأن عيسى عبدالله ورسوله‏.‏ و‏{‏بغيا‏{‏ نصب على المفعول من أجله، أو على الحال من ‏(‏الذين‏)‏ والله تعالى أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20‏)‏

‏{‏فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن‏{‏ أي جادلوك بالأقاويل المزورة والمغالطات، فأسند أمرك إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ وعلى الله نصرك‏.‏ وقوله ‏{‏وجهي‏{‏ بمعنى ذاتي؛ ومنه الحديث ‏(‏سجد وجهي للذي خلقه وصوره‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ الوجه هنا بمعنى القصد؛ كما تقول‏:‏ خرج فلان في وجه كذا‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في البقرة مستوفى؛ والأول أولى‏.‏ وعبر بالوجه عن سائر الذات إذ هو أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس‏.‏ وقال‏:‏

أسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا

وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏:‏ إنها عبارة عن الذات وقيل‏:‏ العمل الذي يقصد به وجهه‏.‏ وقوله ‏{‏ومن اتبعن‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في محل رفع عطفا على التاء في قوله ‏{‏أسلمت‏{‏ أي ومن اتبعني أسلم أيضا، وجاز العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد للفصل بينهما‏.‏ وأثبت نافع وأبو عمرو ويعقوب ياء ‏{‏اتبعن‏{‏ على الأصل، وحذف الآخرون اتباعا للمصحف إذ وقعت فيه بغير ياء‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ليس تخفى يسارتي قدر يوم ولقد تخف شيمتي إعساري

قوله تعالى‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد‏{‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏والأميين‏{‏ الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب‏.‏ ‏{‏أأسلمتم‏{‏ استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الأمر، أي أسلموا؛ كذا قال الطبري وغيره‏.‏ وقال الزجاج‏{‏أأسلمتم‏{‏ تهديد‏.‏ وهذا حسن لأن المعنى أأسلمتم أم لا‏.‏ وجاءت العبارة في قوله ‏{‏فقد اهتدوا‏{‏ بالماضي مبالغة في الإخبار بوقوع الهدي لهم وتحصيله‏.‏ و‏{‏البلاغ‏{‏ مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل، أي إنما عليك أن تبلغ‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مما نسخ بالجهاد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها؛ وأما على ظاهر نزول هذه الآيات في وفد نجران فإنما المعنى فإنما عليك أن تبلغ ما أنزل إليك بما فيه من قتال وغيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏21‏:‏ 22‏)‏

‏{‏إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم، أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين‏{‏ قال أبو العباس المبرد‏:‏ كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله عز وجل فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم؛ ففيهم نزلت هذه الآية‏.‏ وكذلك قال معقل بن أبي مسكين‏:‏ كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجيء إلى بني إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم، فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقسط، أي بالعدل، فيقتلون‏.‏ وقد روي عن ابن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية‏)وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية‏)‏‏.‏ ذكره المهدوي وغيره‏.‏ وروى شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله قال‏:‏ كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيا ثم تقوم سوق بَقْلِهم من آخر النهار‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبيا‏.‏ فالجواب عن هذا أنهم رضوا فعل من قتل فكانوا بمنزلته؛ وأيضا فإنهم قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهموا بقتلهم؛ قال الله عز وجل‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك‏}‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏

دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة‏.‏ قال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه‏)‏‏.‏ وعن درة بنت أبي لهب قالت‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال‏:‏ من خير الناس يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه‏)‏‏.‏ وفي التنزيل‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف‏}‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ ثم قال‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏التوبة‏:‏ 71‏]‏‏.‏ فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه‏.‏ ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب؛ فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة‏.‏ قال الله تعالى‏{‏الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر‏}‏الحج‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتدعة حيث تقول‏:‏ لا يغيره إلا عدل‏.‏ وهذا ساقط؛ فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس‏.‏ فإن تشبثوا بقوله تعالى‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم‏}‏البقرة‏:‏ 44‏]‏ وقوله‏{‏كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏}‏الصف‏:‏ 3‏]‏ ونحوه، قيل لهم‏:‏ إنما وقع الذم ههنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر‏.‏ ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى‏{‏أتأمرون الناس بالبر‏}‏البقرة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبدالبر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وإنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره؛ فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك‏.‏ وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك‏.‏ قال‏:‏ والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة‏.‏ قال الحسن‏:‏ إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم؛ فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال‏:‏ اتقني اتقني فما لك وله‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره‏.‏ وروى ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله وما إذلاله نفسه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يتعرض من البلاء لما لا يقوم له‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وخرجه ابن ماجة عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن بن جندب عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما قد تكلم فيه‏.‏ وروي عن بعض الصحابة أنه قال‏:‏ إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات ‏{‏اللهم إن هذا منكر‏{‏ فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه، وزعم ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده‏.‏ قال‏:‏ والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي‏.‏

قلت‏:‏ هذا خلاف ما ذكره أبو عمر من الإجماع‏.‏ وهذه الآية تدل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل‏.‏ وقال تعالى‏{‏وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك‏}‏لقمان‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وهذا إشارة إلى الإذاية‏.‏

‏"‏روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس‏.‏ فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل؛ وهذا تلقي من قول الله تعالى‏{‏فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه‏.‏ ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به؛ حتى لقد قال العلماء‏:‏ لو فرضنا قودا‏.‏ وقيل‏:‏ كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء‏:‏ إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى‏.‏

‏"‏روى أنس بن مالك قال‏:‏ قيل يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف‏.‏ والنهي عن المنكر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم‏)‏‏.‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم‏)‏‏.‏ قال زيد‏:‏ تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏والعلم في رذالتكم‏)‏ إذا كان العلم في الفساق‏.‏ خرجه ابن ماجة‏.‏ وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في ‏{‏المائدة‏{‏ وغيرها إن شاء الله تعالى‏.‏ وتقدم معنى ‏{‏فبشرهم‏{‏ و‏{‏حبطت‏{‏ في البقرة فلا معنى للإعادة‏.‏

 الاية رقم ‏(‏23‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ هذه الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله‏.‏ فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد‏:‏ على أي دين أنت يا محمد‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني على ملة إبراهيم‏)‏‏.‏ فقالا‏:‏ فإن إبراهيم كان يهوديا‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم‏)‏‏.‏ فأبيا عليه فنزلت الآية‏.‏ وذكر النقاش أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هلموا إلى التوراة ففيها صفتي‏)‏ فأبوا‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ليحكم‏{‏ وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع ‏{‏ليحكم‏{‏ بضم الياء‏.‏ والقراءة الأولى أحسن؛ لقوله تعالى‏{‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏}‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏‏.‏

في هذه الآية دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لأنه دعي إلى كتاب الله؛ فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالأدب على قدر المخالِف والمخالَف‏.‏ وهذا الحكم جار عندنا بالأندلس وبلاد المغرب وليس بالديار المصرية‏.‏ وهذا الحكم الذي ذكرناه مبين في التنزيل في سورة ‏{‏النور‏{‏ في قوله تعالى‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون‏{‏ إلى قوله ‏{‏بل أولئك هم الظالمون‏}‏النور‏:‏ 48 - 49 - 50‏]‏‏.‏ وأسند الزهري عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له‏)‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا حديث باطل‏.‏ أما قوله ‏{‏فهو ظالم‏{‏ فكلام صحيح‏.‏ وأما قوله ‏{‏فلا حق له‏{‏ فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق‏.‏ قال ابن خويز منداد المالكي‏:‏ واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداؤه من المدعي والمدعى عليه‏.‏

وفيها دليل على أن شرائع من قبلنا شريعة لنا إلا ما علمنا نسخه، وإنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا، على ما يأتي بيانه‏.‏ وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل بما فيها لأن من هي في يده غير أمين عليها وقد غيرها وبدلها، ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغير ولم يتبدل جاز لنا قراءته‏.‏ ونحو ذلك روي عن عمر حيث قال لكعب‏:‏ إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها‏.‏ وكان عليه السلام عالما بما لم يغير منها فلذلك دعاهم إليها وإلى الحكم بها‏.‏ وسيأتي بيان هذا في ‏{‏المائدة‏{‏ والأخبار الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏24‏)‏

‏{‏ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون‏}‏

إشارة إلى التولي والإعراض، واغترار منهم في قولهم‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ إلى غير ذلك من أقوالهم‏.‏ وقد مضى الكلام في معنى قولهم‏{‏لن تمسنا النار‏{‏ في البقرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏25‏)‏

‏{‏فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏

خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجب، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم‏.‏ واللام في قوله ‏{‏ليوم‏{‏ بمعنى ‏{‏في‏{‏؛ قاله الكسائي، وقال البصريون‏:‏ المعنى لحساب يوم، الطبري‏:‏ لما يحدث في يوم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏26‏)‏

‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير‏}‏

قال علي رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب تعلقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب وقلن يا رب تهبط بنا دار الذنوب وإلى من يعصيك فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا يقرأكن عبد عقب كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو ونصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت‏)‏‏.‏ وقال معاذ بن جبل‏:‏ احتبست عن النبي صلى الله عليه وسلم يوما فلم أصل معه الجمعة فقال‏:‏ ‏(‏يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، كان ليوحنا بن باريا اليهودي علي أوقية من تبر وكان على بابي يرصدني فأشفقت أن يحبسني دونك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك‏)‏‏؟‏ قلت نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏قل كل يوم قل اللهم مالك الملك - إلى قوله - بغير حساب رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا لأداه الله عنك‏)‏‏.‏ خرجه أبو نعيم الحافظ، أيضا عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال‏:‏ علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن - أو كلمات - ما في الأرض مسلم يدعو بهن وهو مكروب أو غارم أو ذو دين إلا قضى الله عنه وفرج همه، احتبست عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فذكره‏.‏ غريب من حديث عطاء أرسله عن معاذ‏.‏ وقال ابن عباس وأنس بن مالك‏:‏ لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود‏:‏ هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران في قولهم‏:‏ إن عيسى هو الله؛ وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شيء منها‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ أعلم الله عز وجل في هذه الآية بعنادهم وكفرهم، وإن عيسى صلى الله عليه وسلم وإن كان الله تعالى أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عز وجل هو المنفرد بهذه الأشياء؛ من قوله‏{‏تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء‏{‏‏.‏ وقوله‏{‏تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏آل عمران‏:‏ 27‏]‏ فلو كان عيسى إلها كان هذا إليه؛ فكان في ذلك اعتبار وآية بينة‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل اللهم‏{‏ اختلف النحويون في تركيب لفظة ‏{‏اللهم‏{‏ بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة، وأنها منادى؛ وقد جاءت مخففة الميم في قول الأعشى‏:‏

كدعوة من أبي رباح يسمعها اللهم الكبار

قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين‏:‏ إن أصل اللهم يا الله، فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو ‏{‏يا‏{‏ جعلوا بدله هذه الميم المشددة، فجاؤوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد‏.‏ وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا ألله أمنا بخير؛ فحذف وخلط الكلمتين، وإن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذا عند البصريين من الخطأ العظيم، والقول في هذا ما قاله الخليل وسيبويه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداء المفرد، وأن يجعل في اسم الله ضمة أُمّ، هذا إلحاد في اسم الله تعالى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا غلو من الزجاج، وزعم أنه ما سمع قط يا ألله أُمّ، ولا تقول العرب يا اللهم‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ إنه قد يدخل حرف النداء على ‏{‏اللهم‏{‏ وأنشدوا على ذلك قول الراجز‏:‏

غفرت أو عذبت يا اللهما

آخر‏:‏

وما عليك أن تقولي كلما سبحت أو هللت يا اللهم ما

اردد علينا شيخنا مسلما فإننا من خيره لن نعدما

آخر‏:‏

إني إذا ما حدث ألما أقول يا اللهم يا اللهما

قالوا‏:‏ فلو كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا شاذ ولا يعرف قائله، ولا يترك له ما كان في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب؛ وقد ورد مثله في قوله‏:‏

هما نفثا في فيّ من فمويهما على النابح العاوي أشد رجام

قال الكوفيون‏:‏ وإنما تزاد الميم مخففة في فم وابنم، وأما ميم مشددة فلا تزاد‏.‏ وقال بعض النحويين‏:‏ ما قاله الكوفيون خطأ؛ لأنه لو كان كما قالوا كان يجب أن يقال‏{‏اللهم‏{‏ ويقتصر عليه لأنه معه دعاء‏.‏ وأيضا فقد تقول‏:‏ أنت اللهم الرزاق‏.‏ فلو كان كما ادعوا لكنت قد فصلت بجملتين بين الابتداء والخبر‏.‏ قال النضر بن شميل‏:‏ من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها وقال الحسن‏:‏ اللهم تجمع الدعاء‏.‏

قوله تعالى‏{‏مالك الملك‏{‏ قال قتادة‏:‏ بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل أن يعطي أمته ملك فارس فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له ملك فارس والروم في أمته؛ فعلمه الله تعالى بأن يدعو بهذا الدعاء‏.‏ وقد تقدم معناه‏.‏ و‏{‏مالك‏{‏ منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان؛ ومثله قوله تعالى‏{‏قل اللهم فاطر السموات والأرض‏}‏الزمر‏:‏ 46‏]‏ ولا يجوز عنده أن يوصف اللهم لأنه قد ضمت إليه الميم‏.‏ وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السري الزجاج فقالا‏{‏مالك‏{‏ في الإعراب صفة لاسم الله تعالى، وكذلك ‏{‏فاطر السموات والأرض‏{‏‏.‏ قال أبو علي؛ هو مذهب أبي العباس المبرد؛ وما قاله سيبويه أصوب وأبين؛ وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد ‏{‏اللهم‏{‏ لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف؛ نحو غاق وما أشبهه‏.‏ وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع‏.‏ فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت؛ نحو حيهل فلم يوصف‏.‏ و‏{‏الملك‏{‏ هنا النبوة؛ عن مجاهد‏.‏ وقيل، الغلبة‏.‏ وقيل‏:‏ المال والعبيد‏.‏ الزجاج‏:‏ المعنى مالك العباد وما ملكوا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى مالك الدنيا والآخرة‏.‏ ومعنى ‏{‏تؤتي الملك‏{‏ أي الإيمان والإسلام‏.‏ ‏{‏من تشاء‏{‏ أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولا بد فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه‏:‏

ألا هل لهذا الدهر من متعلل على الناس مهما شاء بالناس يفعل

قال الزجاج‏:‏ مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل‏.‏ وقوله‏{‏تعز من تشاء‏{‏ يقال‏:‏ عز إذا علا وقهر وغلب؛ ومنه، ‏{‏وعزني في الخطاب‏}‏ص‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ‏{‏وتذل من تشاء‏{‏ ذل يذل ذلا إذا غلب وعلا وقهر‏.‏ قال طرفة‏:‏

بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ذليل بأجماع الرجال ملهد

‏{‏ بيدك الخير‏{‏ أي بيدك الخير والشر فحذف؛ كما قال‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏النحل‏:‏ 81‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله‏.‏ قال النقاش‏:‏ بيدك الخير، أي النصر والغنيمة‏.‏ وقال أهل الإشارات‏.‏ كان أبو جهل يملك المال الكثير، ووقع في الرس يوم بدر، والفقراء صهيب وبلال وخباب لم يكن لهم مال، وكان ملكهم الإيمان، ‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء‏{‏ تقيم الرسول يتيم أبي طالب على رأس الرس حتى ينادي أبدانا قد انقلبت إلى القليب‏:‏ يا عتبة، يا شيبة تعز من تشاء وتذل من تشاء‏.‏ أي صهيب، أي بلال، لا تعتقدوا أنا منعناكم من الدنيا ببغضكم‏.‏ بيدك الخير ما منعكم من عجز ‏{‏إنك على كل شيء قدير‏{‏ إنعام الحق عام يتولى من يشاء‏.‏

 الاية رقم ‏(‏27‏)‏

‏{‏تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏

قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي في معنى قوله ‏{‏تولج الليل في النهار‏{‏ الآية، أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر، حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات وهو أقصر ما يكون، وكذا ‏{‏تولج النهار في الليل‏{‏ وهو قول الكلبي، وروى عن ابن مسعود‏.‏ وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار، كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر‏.‏ واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى‏{‏وتخرج الحي من الميت‏{‏ فقال الحسن‏:‏ معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وروي نحوه عن سلمان الفارسي‏.‏ وروي معمر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه فإذا بامرأة حسنة الهيئة قال‏:‏ ‏(‏من هذه‏)‏‏؟‏ قلن إحدى خالاتك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن هي‏)‏‏؟‏ قلن‏:‏ هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سبحان الذي يخرج الحي من الميت‏)‏‏.‏ وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا‏.‏ فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن؛ فالموت والحياة مستعاران‏.‏ وذهب كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية حقيقتان؛ فقال عكرمة‏:‏ هي إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة‏.‏ وقال عكرمة والسدي‏:‏ هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة، والنواة من النخلة والنخلة تخرج من النواة؛ والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه‏.‏ ثم قال‏{‏وترزق من تشاء بغير حساب‏{‏ أي بغير تضييق ولا تقتير؛ كما تقول‏:‏ فلان يعطي بغير حساب؛ كأنه لا يحسب ما يعطي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏28‏)‏

‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء؛ ومثله ‏{‏لا تتخذوا بطانة من دونكم‏}‏آل عمران 118‏]‏ وهناك يأتي بيان هذا المعنى‏.‏ ومعنى ‏{‏فليس من الله في شيء‏{‏ أي فليس من حزب الله ولا من أوليائه في شيء؛ مثل ‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وحكى سيبويه ‏{‏هو مني فرسخين‏{‏ أي من أصحابي ومعي‏.‏ ثم استثنى فقال‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏{‏ قال معاذ بن جبل ومجاهد‏:‏ كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين؛ فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثما‏.‏ وقال الحسن‏:‏ التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل‏.‏ وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقية‏{‏ وقيل‏:‏ إن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم‏.‏ ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر؛ بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في ‏{‏النحل‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وأمال حمزة والكسائي ‏{‏تقاة‏{‏، وفخم الباقون؛ وأصل ‏{‏تقاة‏{‏ وُقَيَة على وزن فعلة؛ مثل تؤدة وتهمة، قلبت الواو تاء والياء ألفا‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا تقيا وكان له حلف من اليهود؛ فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة‏:‏ يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو‏.‏ فأنزل الله تعالى‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏{‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في عمار بن ياسر حين تكلم ببعض ما أراد منه المشركون، على ما يأتي بيانه في ‏{‏النحل‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويحذركم الله نفسه‏{‏ قال الزجاج‏:‏ أي ويحذركم الله إياه‏.‏ ثم استغنوا عن ذلك بذا وصار المستعمل؛ قال تعالى‏{‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏}‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك‏.‏ وقال غيره‏:‏ المعنى ويحذركم الله عقابه؛ مثل ‏{‏واسأل القرية‏{‏‏.‏ وقال‏{‏تعلم ما في نفسي‏{‏ أي مغيبي، فجعلت النفس في موضع الإضمار لأنه فيها يكون‏.‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏{‏ أي وإلى جزاء الله المصير‏.‏ وفيه إقرار بالبعث‏.‏

 الآية رقم ‏(‏29‏)‏

‏{‏قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير‏}‏

فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه، وبما في السموات والأرض وما احتوت عليه، علام الغيوب لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يغيب عنه شيء، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏30‏)‏

‏{‏يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد‏}‏

‏{‏يوم‏{‏ منصوب متصل بقوله‏{‏ويحذركم الله نفسه‏.‏ يوم تجد‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو متصل بقوله‏{‏وإلى الله المصير‏.‏ يوم تجد‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو متصل بقوله‏{‏والله على كل شيء قدير‏.‏ يوم تجد‏{‏ ويجوز أن يكون منقطعا على إضمار اذكر؛ ومثله قوله‏{‏إن الله عزيز ذو انتقام‏.‏ يوم تبدل الأرض‏}‏إبراهيم‏:‏47، 48‏]‏‏.‏ و‏{‏محضرا‏{‏ حال من الضمير المحذوف من صلة ‏{‏ما‏{‏ تقديره يوم تجد كل نفس ما عملته من خير محضرا‏.‏ هذا على أن يكون ‏{‏تجد‏{‏ من وجدان الضالة‏.‏ و‏{‏ما‏{‏ من قوله ‏{‏وما عملت من سوء‏{‏ عطف على ‏{‏ما‏{‏ الأولى‏.‏ و‏{‏تود‏{‏ في موضع الحال من ‏{‏ما‏{‏ الثانية‏.‏ وإن جعلت ‏{‏تجد‏{‏ بمعنى تعلم كان ‏{‏محضرا‏{‏ المفعول الثاني، وكذلك تكون ‏{‏تود‏{‏ في موضع المفعول الثاني؛ تقديره يوم تجد كل نفس جزاء ما عملت محضرا‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏{‏ الثانية رفعا بالابتداء، و‏{‏تود‏{‏ في موضع رفع على أنه خبر الابتداء، ولا يصح أن تكون ‏{‏ما‏{‏ بمعنى الجزاء؛ لأن ‏{‏تود‏{‏ مرفوع، ولو كان ماضيا لجاز أن يكون جزاء، وكان يكون معنى الكلام‏:‏ وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا؛ أي كما بين المشرق والمغرب‏.‏ ولا يكون المستقبل إذا جعلت ‏{‏ما‏{‏ للشرط إلا مجزوما؛ إلا أن تحمله على تقدير حذف الفاء، على تقدير‏:‏ وما عملت من سوء فهي تود‏.‏ أبو علي‏:‏ هو قياس قول الفراء عندي؛ لأنه قال في قوله تعالى‏{‏وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏‏:‏ إنه على حذف الفاء‏.‏ والأمد‏:‏ الغاية، وجمعه آماد‏.‏ ويقال‏:‏ استولى على الأمد، أي غلب سابقا‏.‏ قال النابغة‏:‏

إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد

والأمد‏:‏ الغضب‏.‏ يقال‏:‏ أمِد أمَدا، إذا غضب غضبا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏31‏)‏

‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم‏}‏

الحب‏:‏ المحبة، وكذلك الحب بالكسر‏.‏ والحب أيضا الحبيب؛ مثل الخِدن والخَدين؛ يقال أحبه فهو محب، وحبه يحبه ‏(‏بالكسر‏)‏ فهو محبوب‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وهذا شاذ؛ لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ والأصل فيه حَبُب كظرف، فأسكنت الباء وأدغمت في الثانية‏.‏ قال ابن الدهان سعيد‏:‏ في حَبّ لغتان‏:‏ حَبّ وأحَبّ، وأصل ‏{‏حب‏{‏ في هذا البناء حَبُب كظرف؛ يدل على ذلك قولهم‏:‏ حَبُبْت، وأكثر ما ورد فعيل من فعل‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ والدلالة على أحب قوله تعالى‏{‏يحبهم ويحبونه‏}‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ بضم الياء‏.‏ و‏{‏اتبعوني يحببكم الله‏}‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ و‏{‏حَبّ‏{‏ يرد على فعل لقولهم حبيب‏.‏ وعلى فعل كقولهم محبوب‏:‏ ولم يرد اسم الفاعل من حب المتعدي، فلا يقال‏:‏ أنا حاب‏.‏ ولم يرد اسم المفعول من أفعل إلا قليلا؛ كقوله‏:‏

مني بمنزلة المحب المكرم

وحكى أبو زيد‏:‏ حببته أحبه‏.‏ وأنشد‏:‏

فوالله لولا تمره ما حببته ولا كان أدنى من عويف وهاشم

وأنشد‏:‏

لعمرك إنني وطلاب مصر لكالمزداد مما حب بعدا

وحكى الأصمعي فتح حرف المضارعة مع الياء وحدها‏.‏ والحب الخابية، فارسي معرب، والجمع حِباب وحِبَبَة؛ حكاه الجوهري‏.‏ والآية نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادعوه في عيسى حب لله عز وجل؛ قاله محمد بن جعفر بن الزبير‏.‏ وقال الحسن وابن جريج‏:‏ نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا‏:‏ نحن الذين نحب ربنا‏.‏ وروي أن المسلمين قالوا‏:‏ يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا؛ فأنزل الله عز وجل‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني‏{‏‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ المحبة عند العرب إرادة الشيء على قصد له‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما؛ قال الله تعالى‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني‏{‏‏.‏ ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران؛ قال الله تعالى‏{‏إن الله لا يحب الكافرين‏}‏آل عمران‏:‏ 32‏]‏ أي لا يغفر لهم‏.‏ وقال سهل بن عبدالله‏:‏ علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة؛ وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة‏.‏ وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس‏)‏ خرجه أبو عبدالله الترمذي‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذي جاره‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال - ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه - قال - فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض‏)‏‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر سورة ‏{‏مريم‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقرأ أبو رجاء العطاردي ‏(‏فاتبعوني‏)‏ بفتح الباء، ‏{‏ويغفر لكم‏{‏ عطف على ‏{‏يحببكم‏{‏‏.‏ وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من ‏{‏يغفر‏{‏ في اللام من ‏{‏لكم‏{‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرو أجل من أن يغلط في مثل هذا، ولعله كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏32‏)‏

‏{‏قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل أطيعوا الله والرسول‏{‏ يأتي بيانه في ‏(‏النساء‏)‏‏.‏

‏{‏فإن تولوا‏{‏ شرط، إلا أنه ماض لا يعرب‏.‏ والتقدير فإن تولوا على كفرهم وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله ‏{‏فإن الله لا يحب الكافرين‏{‏ أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم كما تقدم‏.‏ وقال ‏{‏فإن الله‏{‏ ولم يقل ‏{‏فإنه‏{‏ لأن العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره؛ وأنشد سيبويه‏:‏

لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

 الآية رقم ‏(‏33‏)‏

‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحا‏{‏ اصطفى اختار، وقد تقدم في البقرة‏.‏ وتقدم فيها اشتقاق آدم وكنيته، والتقدير إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام؛ فحذف المضاف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم‏.‏ ‏{‏ونوحا‏{‏ قيل إنه مشتق من ناح ينوح، وهو اسم أعجمي إلا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف، وهو شيخ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات، ومن قال‏:‏ إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم على ما يأتي بيانه في ‏{‏الأعراف‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏{‏ تقدم في البقرة معنى الآل وعلى ما يطلق مستوفى‏.‏ وفي البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ آل إبراهيم وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد؛ يقول الله تعالى‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين‏}‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏ وقيل‏:‏ آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون‏}‏البقرة‏:‏ 248‏]‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود‏)‏؛ وقال الشاعر‏:‏

ولا تبك ميتا بعد ميت أحبه علي وعباس وآل أبي بكر

وقال آخر‏:‏

يلاقي من تذكر آل ليلى كما يلقى السليم من العداد

أراد من تذكر ليلى نفسها‏.‏ وقيل‏:‏ آل عمران آل إبراهيم؛ كما قال‏{‏ذرية بعضها من بعض‏}‏آل عمران‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد عيسى، لأن أمه ابنة عمران‏.‏ وقيل‏:‏ نفسه كما ذكرنا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر لن فاهاث بن لاوى بن يعقوب‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هو عمران أبو مريم، وهو من ولد سليمان عليه السلام‏.‏ وحكى السهيلي‏:‏ عمران بن ماتان، وامرأته حنة ‏(‏بالنون‏)‏‏.‏ وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم‏.‏ ولم ينصرف عمران لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين‏.‏ ومعنى قوله‏{‏على العالمين‏{‏ أي على عالمي زمانهم، في قول أهل التفسير‏.‏ وقال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي‏:‏ جميع الخلق كلهم‏.‏ وقيل ‏{‏على العالمين‏{‏‏:‏ على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور، وذلك أن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق؛ فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة‏.‏ قال الله تعالى‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق، لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور‏.‏ وسائر الأنبياء لم يحلوا هذا المحل؛ ولذلك قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أنا رحمة مهداة‏)‏ يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله‏.‏ وقوله ‏(‏مهداة‏)‏ أي هدية من الله للخلق‏.‏ ويقال‏:‏ اختار آدم بخمسة أشياء‏:‏ أولها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته، والثاني أنه علمه الأسماء كلها، والثالث أمر الملائكة بأن يسجدوا له، والرابع أسكنه الجنة، والخامس جعله أبا البشر‏.‏ واختار نوحا بخمسة أشياء‏:‏ أولها أنه جعله أبا البشر؛ لأن الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين، والثاني أنه أطال عمره؛ ويقال‏:‏ طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين، والرابع أنه حمله على السفينة، والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع؛ وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات‏.‏ واختار إبراهيم بخمسة أشياء‏:‏ أولها أنه جعله أبا الأنبياء؛ لأنه‏"‏روى أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني أنه اتخذه خليلا، والثالث أنه أنجاه من النار، والرابع أنه جعله إماما للناس، والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن‏.‏ ثم قال‏{‏وآل عمران‏{‏ فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المن والسلوى وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم‏.‏ وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏34‏)‏

‏{‏ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم‏}‏

تقدم في البقرة معنى الذرية واشتقاقها‏.‏ وهي نصب على الحال؛ قاله الأخفش‏.‏ أي في حال كون بعضهم من بعض، أي ذرية بعضها من ولد بعض‏.‏ الكوفيون‏:‏ على القطع‏.‏ الزجاج‏:‏ بدل، أي اصطفى ذرية بعضها من بعض، ومعنى بعضها من بعض، يعني في التناصر في الدين؛ كما قال‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‏}‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ يعني في الضلالة؛ قاله الحسن وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ في الاجتباء والاصطفاء والنبوة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به التناسل، وهذا أضعفها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏35‏)‏

‏{‏إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتتقبل مني إنك أنت السميع العلي‏}‏

قوله تعالى‏{‏إذ قالت امرأة عمران‏{‏ قال أبو عبيدة‏{‏إذ‏{‏ زائدة‏.‏ وقال محمد بن يزيد‏:‏ التقدير‏:‏ اذكر إذ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران‏.‏ وهي حنة ‏(‏بالحاء المهملة والنون‏)‏ بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى عليه السلام، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة‏.‏ وفي العربية أبو حنة البدري، ويقال فيه‏:‏ أبو حبة ‏(‏بالباء بواحدة‏)‏ وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشأم، ودير آخر أيضا يقال له كذلك؛ قال أبو نواس‏:‏

يا دير حنة من ذات الأكيراح من يصح عنك فإني لست بالصاحي

وحبة في العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاري، وأبو السنابل بن بعكك المذكور في حديث سبيعة حبة، ولا يعرف خنة بالخاء المعجمة إلا بنت يحيى بن أكثم القاضي، وهي أم محمد بن نصر، ولا يعرف جنة ‏(‏بالجيم‏)‏ إلا أبو جنة، وهو خال ذي الرمة الشاعر‏.‏ كل هذا من كتاب ابن ماكولا‏.‏

قوله تعالى‏{‏رب إني نذرت لك ما في بطني محررا‏{‏ تقدم معنى النذر، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه‏.‏ ويقال‏:‏ إنها لما حملت قالت‏:‏ لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لجعلته محررا‏.‏ ومعنى ‏{‏لك‏{‏ أي لعبادتك‏.‏ ‏{‏محررا‏{‏ نصب على الحال، وقيل‏:‏ نعت لمفعول محذوف، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا، والأول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والإعراب‏:‏ أما الإعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع، ويجوز على المجاز في أخرى، وأما التفسير فقيل أن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، وإنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك، ودعت ربها أن يهب لها ولدا، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها محررا‏:‏ أي عتيقا خالصا لله تعالى، خادما للكنيسة حبيسا عليها، مفرغا لعبادة الله تعالى‏.‏ وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم‏.‏ فلما وضعت مريم قالت‏{‏رب إني وضعتها أنثى‏{‏ يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة‏.‏ قيل لما يصيبها من الحيض والأذى‏.‏ وقيل‏:‏ لا تصلح لمخالطة الرجال‏.‏ وكانت ترجو أن يكون ذكرا فلذلك حررت‏.‏

قال ابن العربي‏{‏لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله؛ فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك؛ وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له، وكذلك المرأة مثله؛ فأي وجه للنذر فيه‏؟‏ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريد ولده للأنس به والاستنصار والتسلي، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه؛ فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الأنس به متروك فيه، وهو على خدمة الله تعالى موقوف، وهذا نذر الأحرار من الأبرار‏.‏ وأرادت به محررا من جهتي، محررا من رق الدنيا وأشغالها؛ وقد قال رجل من الصوفية لأمه‏:‏ يا أمه‏:‏ ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت نعم‏.‏ فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت من‏؟‏ فقال لها‏:‏ ابنك فلان، قالت‏:‏ قد تركناك لله ولا نعود فيك‏.‏

قوله تعالى‏{‏محررا‏{‏ مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية؛ من هذا تحرير الكتاب، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد‏.‏ وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد‏:‏ أن المحرر الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا‏.‏ وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص‏:‏ حر، ومحرر بمعناه؛ قال ذو الرمة‏:‏

والقرط في حرة الذفرى معلقه تباعد الحبل منه فهو يضطرب

وطين حر لا رمل فيه، وباتت فلانة بليلة حرة إذا لم يصل إليها زوجها أول ليلة؛ فإن تمكن منها فهي بليلة شيباء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏36‏)‏

‏{‏فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور، فقبل الله مريم‏.‏ ‏{‏وأنثى‏{‏ حال، وإن شئت بدل‏.‏ فقيل‏:‏ إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها؛ رواه أشهب عن مالك‏:‏ وقيل‏:‏ لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد، فوفت بنذرها وتبرأت منها‏.‏ ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام؛ ففي البخاري ومسلم أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت‏.‏ الحديث‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله أعلم بما وضعت‏{‏ هو على قراءة من قرأ ‏{‏وضعت‏{‏ بضم التاء من جملة كلامها؛ فالكلام متصل‏.‏ وهي قراءة أبي بكر وابن عامر، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى عليه شيء، ولم تقله على طريق الإخبار لأن علم الله في كل شيء قد تقرر في نفس المؤمن، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى‏.‏ وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله عز وجل قدم، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد ‏{‏وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏}‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏ والله أعلم بما وضعت؛ قاله المهدوي‏.‏ وقال مكي‏:‏ هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال‏:‏ والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله‏.‏ ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام‏:‏ وأنت أعلم بما وضعت؛ لأنها نادته في أول الكلام في قولها‏:‏ رب إني وضعتها أنثى‏.‏ وروي عن ابن عباس ‏{‏بما وضعت‏{‏ بكسر التاء، أي قيل لها هذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏{‏ استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفارة عليها، ابن العربي، وهذه منه غفلة، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها‏.‏ ولم ينصرف ‏{‏مريم‏{‏ لأنه مؤنث معرفة، وهو أيضا أعجمي؛ قاله النحاس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإني سميتها مريم‏{‏ يعني خادم الرب في لغتهم‏.‏ ‏{‏وإني أعيذها بك‏{‏ يعني مريم‏.‏ ‏{‏وذريتها‏{‏ يعني عيسى‏.‏ وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه‏)‏ ثم قال أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم‏{‏وإني أعيدها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏{‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها‏.‏ قال قتادة‏:‏ كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شيء، قال علماؤنا‏:‏ وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد؛ فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لها ومقارنته‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏37‏)‏

‏{‏فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏فتقبلها ربها بقبول حسن‏{‏ المعنى‏:‏ سلك بها طريق السعداء؛ عن ابن عباس‏.‏ وقال قوم‏:‏ معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار‏.‏ ‏{‏وأنبتها نباتا حسنا‏{‏ يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد‏.‏ والقبول والنبات مصدران على غير المصدر، والأصل تقبلا وإنباتا‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا

أراد بعد إعطائك، لكن لما قال ‏{‏أنبتها‏{‏ دل على نبت؛ كما قال امرؤ القيس‏:‏

فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال

وإنما مصدر ذَلّت ذُلٌّ، ولكنه رده على معنى أذْلَلتْ؛ وكذلك كل ما يرد عليك في هذا الباب‏.‏ فمعنى تقبل وقبل واحد، فالمعنى فقبلها ربها بقبول حسن‏.‏ ونظيره قول رؤبة‏:‏

وقد تَطَوّيتُ انطواء الحِضْبِ

الأفعى لأن معنى تَطَوّيتُ وانطويت واحد؛ ومثله قول القطامي‏:‏

وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا

لأن تتبعت واتبعت واحد‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود ‏{‏وأنزل الملائكة تنزيلا ‏{‏لأن معنى نزل وأنزل واحد‏.‏ وقال المفضل‏:‏ معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا‏.‏ ومراعاة المعنى أولى كما ذكرنا‏.‏ والأصل في القبول الضم؛ لأنه مصدر مثل الدخول والخروج، والفتح جاء في حروف قليلة؛ مثل الوَلوع والوزوع؛ هذه الثلاثة لا غير؛ قاله أبو عمر والكسائي والأئمة‏.‏ وأجاز الزجاج ‏{‏بقبول‏{‏ بضم القاف على الأصل‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكفلها زكريا‏{‏ أي ضمها إليه‏.‏ أبو عبيدة‏:‏ ضمن القيام بها‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏{‏وكفلها‏{‏ بالتشديد، فهو يتعدى إلى مفعولين؛ والتقدير وكفلها ربها زكريا، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له‏.‏ وفي مصحف أبي ‏{‏وأكفلها‏{‏ والهمزة كالتشديد في التعدي؛ وأيضا فإن قبْله ‏{‏فتقبلها، وأنبتها‏{‏ فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها؛ فجاء ‏{‏كفلها‏{‏ بالتشديد على ذلك‏.‏ وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا‏.‏ فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها؛ بدلالة قوله‏{‏أيهم يكفل مريم‏}‏آل عمران‏:‏ 44‏]‏‏.‏ قال مكي‏:‏ وهو الاختيار؛ لأن التشديد يرجع إلى التخفيف، لأن الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته؛ فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان‏.‏ وروى عمرو بن موسى عن عبدالله بن كثير وأبي عبدالله المزني ‏{‏وكفلها‏{‏ بكسر الفاء‏.‏ قال الأخفش‏:‏ يقال كَفَلَ يَكْفُلُ وكَفِلَ يَكْفَلُ ولم أسمع كَفُلَ، وقد ذكرت‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏فتقبلْها‏{‏ بإسكان اللام على المسألة والطلب‏.‏ ‏{‏ربها‏{‏ بالنصب نداء مضاف‏.‏ ‏{‏وأنبتْها‏{‏ بإسكان التاء ‏{‏وكفلها‏{‏ بإسكان اللام ‏{‏زكرياء‏{‏ بالمد والنصب‏.‏ وقرأ حفص وحمزة والكسائي ‏{‏زكريا‏{‏ بغير مد ولا همزة، ومده الباقون وهمزوه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يمدون ‏{‏زكرياء‏{‏ ويقصرونه، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون‏:‏ زكري‏.‏ قال الأخفش‏:‏ فيه أربع لغات‏:‏ المد والقصر، وكري بتشديد الياء والصرف، وزكر ورأيت زكريا‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ زكرى بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط؛ لأن ما كان فيه ‏{‏يا‏{‏ مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لأن فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف‏.‏

قوله تعالى‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب‏{‏ المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس‏.‏ وسيأتي له مزيد بيان في سورة ‏{‏مريم‏{‏‏.‏ وجاء في الخبر‏:‏ إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم‏.‏ قال وضاح اليمن‏:‏

ربة محراب إذا جئتها لم أَلْقها حتى ارتَقِي سلما

أي ربة غرفة‏.‏‏"‏روى أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران‏:‏ ويحك ما صنعت‏؟‏ أرأيت إن كانت أنثى‏؟‏ فاغتما لذلك جميعا‏.‏ فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي، على ما يأتي‏.‏ فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقي إليه إلا بسلم، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كانت أختها امرأة زكريا‏.‏ وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض‏.‏ وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال‏:‏ يا مريم أنى لك هذا‏؟‏ فقالت‏:‏ هو من عند الله‏.‏ فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال‏:‏ إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا‏.‏ ومعنى ‏{‏أنى‏{‏ من أين؛ قاله أبو عبيدة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا فيه تساهل؛ لأن ‏{‏أين‏{‏ سؤال عن المواضع و‏{‏أنى‏{‏ سؤال عن المذاهب والجهات‏.‏ والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا‏.‏ وقد فرق الكميت بينهما فقال‏:‏

أنى ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب

و ‏{‏كلما‏{‏ منصوب بـ ‏{‏وجد‏{‏، أي كل دخلة‏.‏ ‏{‏إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏{‏ قيل‏:‏ هو من قول مريم، ويجوز أن يكون مستأنفا؛ فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد‏.‏